BP Pixel code

BEE PULLO

27 يونيو، 2011

الفولانيون وقدماء المصريون_٠٠١

الصــلة بين الفــولانيين وبين قدمــاء المصــريين وقدمــاء بلاد النــــوبة

 د. الأمــين أبومـــنقة أ.د. سليــمان يحـــيى

مستخلص:
LEYDEELE  FULBE  NDER  AFIRIK
نهدف في هذا المقال إلى القول بأن هنالك صلة ما (ليست بالضرورية رحمية) تربط بين الفولانيين وبين كل من قدماء المصريين وقدماء بلاد النوبة، وأوردنا عدداً من الأدلة التاريخية والآثارية والثقافية والدينية التي تعضد هذا القول، منطلقين من حقيقة تم إثباتها مؤخراً، مفادها أن الموطن الأول للفولانيين في إفريقيا يقع إلى الغرب من مصر (منطقة تسيلي نجير في الجزائر). وقد حاولنا ربط هذه الحقيقة بالبعض من النظريات التي تنسب الفولانيين إلى الهكسوس وقدماء المصريين، والقول بوجود شعب في مصر الفرعونية يربي الأبقار ويقدسها. وحاولنا كذلك استجلاء مظاهر الشبه (مدعومة بالصور) بين قدماء المصريين والفولانيين (الامبررو) فيما يتصل ببعض المعتقدات الروحية وافتتان الرجال بالزينة عند كليهما.
بالنسبة لقدماء بلاد النوبة، فقد عني المقال بالمجموعة (ج) على وجه التحديد، والتي ظهرت فجأة تحمل ثقافة جديدة تتمحور حول البقرة، ويعتقد أنها قادمة من جهة الغرب. وقد أوردنا بعضاً من مظاهر الصلة بين الفولانيين وقدماء النوبة (استخدام السهام/النشاب، وتقديس الكبش مثلاً)، ودعونا المؤرخين إلى أخذ الفولانيين في الاعتبار عند البحث عن أصل المجموعة (ج) النوبية.
                                                                                                               ABSTRACT
We intend in this article to argue that there is a kind or relation (not necessarily of blood) between each of the Ancient Egyptians and the Ancient Nubians. We provided a number of historical, archeological, cultural and religious evidences that support this argument. We departed from the recently proved fact that the first home of the Fulani in Africa lies to the west of Egypt (Tassili N’Ajjer in Algeria). We thus tried to link this fact with some of the theories that relate the Fulani to the Heksos and Ancient Egyptians, as well as the assumption that speaks of the existence in Pharaonic Egypt of a people which reared and venerated cattle. We then tried to discern the resemblance (illustrated by pictures) between the Ancient Egyptians and the Fulani with regard to some spiritual beliefs and men’s infatuation by ornaments among both peoples.
Regarding the Ancient Nubians, the article concerned itself with the C-Group in particular, which appeared suddenly introducing a new culture rotating around ‘cattle’, believed to have migrated from the west. We provided some common cultural elements which reflect the relationship between the Fulani and the Ancient Nubians (e.g. use of bows and arrows, and veneration of the ram) calling upon the historians to have the Fulani also in mind while seeking the origin of the Nubian C-Group.

مقدمة

لم تتعدد النظريات وتختلف حول أصل شعب من الشعوب – حسب علمنا - مثل تعددها واختلافها حول أصل الفولانيين. ولكن ما إن ينظر الباحث إلى هذه النظريات بشيء من التعمُّق حتى يتضح له أن الاختلاف في جلِّها اختلاف ظاهري فقط، وليس جوهرياً، إذ إن ما يربط بعضها ببعض تاريخياً أقوى مما يفرق بينها. فالنظريات التي تنسبهم إلى القوقاز والهكسوس وقدماء المصريين والليبيين والروم وبني إسرائيل والعرب مثلاً كلها في نهاية المطاف تنتهي بهم إلى المساحة الممتدة من صحراء سيناء عبر الصحراء الليبية إلى قلب بلاد المغرب. والبعض من العناصر البشرية المذكورة أعلاه، والتي أصلها من خارج القارة الإفريقية، قد أثبت التاريخ وجودها في يوم من الأيام في هذه الرقعة الجغرافية. هذا، بينما كشفت الحفريات الأثرية في منطقة تسيلي ناجير (Tassili N’Ajjer) في الجزائر عن رسومات ونقوش في الكهوف لشعب يرجَّح أنهم الفولانيون، كما سنرى لاحقاً.
وكذلك اختلف المؤرخون حول أصل المجموعة (ج) (C-Group) النوبية التي ظهرت فجأة في بلاد النوبة بملامح إثنية غير زنجية حاملة نمطاً اقتصادياً اجتماعياً جديداً يتمحور حول تربية الأبقار، رجَّح بعض المؤرخين أنها مهاجرة من جهة الصحراء الليبية.
لقد وجدنا من خلال الدراسات المتوافرة حول الفولانيين، ومن خلال ملاحظتنا لهيئآتهم الإيكنوقرافية ونمط معيشتهم وثقافتهم المادية ومعتقداتهم الروحية (خارج إطار الإسلام)، وجدنا – كما وجد غيرنا من قبل – تشابهاً ملاحظاً بينهم وبين قدماء المصريين وقدماء بلاد النوبة، الأمر الذي دعانا إلى محاولة البحث والتوسُّع في هذا الموضوع وإلقاء مزيد من الضوء عليه، معتمدين في ذلك على أدلة تاريخية وشواهد أثرية ولغوية وثقافية. وتجدر الإشارة إلى أننا لا نسعى في هذا المقال إلى إثبات أن هؤلاء هم أولئك بقدر سعينا إلى إثبات وجود قدر مقنع من الصلة بينهم ترجع إلى عهود غابرة في التاريخ.


1- الفلاتة الفولانيون: الأصل والموطن
يُعرف الفلاتة الفولانيون بمختلف المسميات، منها : فولاني (Fulani)، وفولا Fula(h))، و بيول (Peul)، وفلاتة (Fallata/Fellata). غير أن للمسمى الأخير، أي "فلاتة" مدلولاً شمولياً خاطئاً في مفهوم السودانيين بصورة خاصة، حيث يعني عندهم كل المجموعات المهاجرة من غرب إفريقيا بمختلف قبائلها وخلفياتها الإثنية، بما في ذلك الفولانيون أنفسهم. فالشعب المعني في هذا المقال هم مجموعات الفلاتة الفولانيين بشقيهم البدو (رعاة الأبقار) والمستقرون الذين ارتبط تاريخهم بحركات الجهاد ونشر الإسلام والعلم وتأسيس الممالك والإمبراطوريات الإسلامية في غرب إفريقيا، والذين إليهم ينتمي المجاهد الشيخ عثمان بن فودي. وهم المتحدثون باللغة الفولانية، ويسمونها "فلفلدي".
تتدرج ملامح الفولانيين الفيزيولوجية من السحنة النحاسية والشعر الطويل الناعم، وتقاطيع الوجه الدقيقة (كما هو الحال عند بعض المجموعات البدوية وشبه البدوية كالأمبرورو والودابي والويلا والدقرا) إلى السحنة الداكنه والشعر المجعَّد والأنف الأفطس (كما عند بعض البولار والبيول في السنغال ومالي وغينيا). من المؤكد أن للاختلاط والتصاهر والتمازج مع المجموعات الإفريقية الأخرى دوراً في هذا التباين. وكذلك تختلف أنماط حياتهم ومعيشتهم ومن ثم بعض الجوانب من ثقافاتهم، إذ منهم من يمارس حياة موغلة في البداوة مكرَّسة لتربية الأبقار (والضأن) وخدمتها، ومنهم مجموعات أصبحت تمتهن الزراعة وما عاد لها شأن بتربية الحيوان، ومنهم من يجمع بين الاثنين، وهناك بعض منهم لا شأن له بهذا أو ذاك، بل اقتفى خطى أجداده مؤسسى الممالك فكرَّس حياته للعلم والسياسة.
وفي ما يتصل باللغة والثقافة، فكل المجموعات البدوية الرعوية ما زالت محتفظة بلغتها العرقية (الفلفلدي) وبالثقافة الفولانية الأصلية (Pulaaku). أما المستقرون فيتفاوتون في هذا الأمر تبعاً لأوضاعهم الاجتماعية في مختلف أماكن وجودهم. فمنهم المحافظون على لغتهم وثقافتهم الأم، ولكن هناك مجموعات ذابت لغةً وثقافةً في مجتمعات الأغلبية التي يعيشون وسطها، حيث هناك من ذاب في مجتمعات الماندينقو في غينيا، والبمبرا والصنغي في مالي، والهوسا في نيجيريا، والمجتمعات العربية في السودان.
كما ذكرنا في المقدمة، لقد اختلف الباحثون أيما اختلاف حول أصل الفولانيين، حتى خلص عالم الأنثربولوجيا، س.ك. ميك C.K. Meek إلى القول بأن في أصلهم لغزاً ((Puzzle (كبيراً) . لقد تناقش العلماء حول هذا الأمر لقرابة القرن من الزمان دون الوصول إلى إجماع حوله، وما كان لنا أن نتطرق إليه في هذا المقال لولا أن ظهرت دراسات جديدة في بعض مجالات العلوم الإنسانية (تاريخ مصر الفرعونية وبلاد النوبة، حفريات أثرية، دراسات إثنولوجية، دراسات في الفنون الإفريقية، إلخ) ألقت نتائجها أضواء جديدة عليه، سيتم الاستشهاد بها في مواضع مختلفة من هذا المقال.
هناك ما لا يقل عن خمس عشرة نظرية حول أصل الفولانيين. منها إنهم من: الماليزيين، الهنود، الأثيوبيين، الباسك (فرنسا)، القوقاز، الهكسوس، الفينيقيين، اليهود السوريين، قدماء المصريين، الفلاحين المصريين (Fulah)، الحاميين، الليبيين، والعرب. والغريب في الأمر أن كل من أتى بإحدى هذه النظريات ساق معها الأدلة التي تعضدها، إما من ناحية التكوين الجسماني أو الثقافة. والقاسم المشترك بين معظم هذه النظريات، هو أنهم شعب قادم من خارج القارة الإفريقية. مهما يكن من أمر، فإننا لا نستبعد انتماءهم إلى أحد هذه الشعوب مع تأثرهم بالشعوب الأخرى (ربما لكثرة تجوالهم في العالم القديم). على أية حال، سيقتصر عرضنا ومناقشتنا هنا على النظريات ذات الصلة المباشرة بأطروحة هذا المقال.
من الذين صنَّف الفولانيين ولغتهم في السلالة الحامية، عالم اللغة الألماني كارل ماينهوف معتمداً في ذلك على سحنتهم (غير الداكنة) وتكوينهم الجسماني (الجسم النحيل) ونمط معيشتهم (الرعي) . غير أنه ، حتى إن صدقت أدلته فيهم من حيث السلالة، من المؤكد أنه كان خاطئاً في تصنيفه لغة الفلفلدي لغة حامية.
أما س.ك. ميك فقد أشار إلى الشبه الكبير بين الفولانيين وقدماء المصريين، دون التطرق إلى مسألة الأصل أو الانتماء، حيث يقول:
إن الشبه في التكوين الجسماني بين العنصر النقي من الفولانيين وبين قدماء المصريين لملفت للنظر. فنجد في كليهما نفس شكل الجمجمة، والوجه المخروطي، وشكل الذقن، وغياب الشوارب، والشعر الزنجي المجعَّد. وقد أخذوا من الفراعنة طريقة تصفيف الشعر وعادة الختان.
ولا يذهب شونتر (Chantre) وبروكا (Broca) بعيداً عن ملاحظة ميك، حيث ينسبانهم إلى الفلاحين المصريين في وادي النيل.
وهناك من نسب الفولانيين إلى الفينيقيين، ربما – حسب تفسير ميك – لأنهم حمر البشرة، والإغريق يسمون الفينيقيين بـ"الشعب الأحمر" (في رواية أخرى "ذوي الأشرعة الحمراء")، وأنهم ، أي الفولانيين، يلبسون القبعة الفينيقية ويصفِّفون شعرهم على شكل الخوذة الفينيقية (انظر الصورة رقم (1) ورقم(2) في ملحق الصور عند نهاية المقال).
بيد أن دولافوس يصفهم بأنهم شعب خليط من نسل يهودي-سوري استقر منذ زمن سحيق في سيرينايكا (ليبيا)، ومن هناك شقوا طريقهم إلى وادي النيجر الأعلى وأصبحوا الحكام البيض لمملكة غانا من القرن الرابع إلى الثامن أو التاسع الميلاديين . وهنا نجد دولافوس قد اتفق إلى حد كبير مع هيرودوتس الذي يصف شعباً كان يعيش في هذه المنطقة تتطابق معظم صفاتهم مع صفات الفولانيين، حيث كتب قائلاً:
المنطقة من مصر حتى بحيرة ترويتونيس (Troitonis) في ليبيا تسكنها قبائل متجولة، شرابهم اللبن، وأكلهم لحوم الحيوانات. لا نجد أحداً منهم قد ذاق لحم البقر، بل يبتعدون عنه مثلهم في ذلك مثل المصريين. ولا أحد منهم يربي الخنزير. وحتى في سيريني (أو كوريني) (Cyrene) (سرينايكا؟) تعتقد المرأة أنه من الخطأ أكل لحم البقرة، وذلك تقديراً لإيزيس المعبودة المصرية، والتي يعبدونها عن طريق الصوم وإقامة الاحتفالات لها.
أما علماء القرن التاسع عشر من الفولانيين الذين اهتموا بنسب قبيلتهم، وهم قلة، فقد جمعوا بين نظريات الأصل العربي اليهودي والرومي. ومن هؤلاء الشيخ عبدالله بن فودي في كتابه المعنون "كتاب النسب"، سوى أنه استخدم عبارة "بني إسرائيل" بدلاً عن اليهود، حيث يقول:
واعلم أن قبيلتنا التي تسمى توربِّ (Torobbe) (أحد كبرى بطون الفولان) الذين جاءوا من فوتَ (Futa)، فيما نسمع، هم إخوان جميع الفولانيين... كان عقبة بن عامر المجاهد الذي فتح بلاد الغرب زمن عمرو بن العاص في مصر ووصل إليهم، وهم من قبائل الروم. فأسلم ملكهم من غير قتال وتزوج عقبة ابنة ملكهم اسمها بجُّ منغَ (Bajjo Mango)، فولد الفولانيين جميعاً. هذا ما تواتر عندنا وأخذناه من الثقاة الذين يخرجون من بلاد فوت... وقد علمت أن الروم هو عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام.
وفي إحدى قصائده يلخِّص الشيخ عبدالله هذا النسب في الأبيات التالية:
فلنا لإسماعيل نسبة عقبة ولنا لإســرائيل أصل جار
أعمامنا عربُ كما أخوالنا أبناء إســـرائيل أصل جار
من طور سينا أصلنا وجهادنا أفضـى لفوت بنا يثار الدار
ثم الحوادث سيَّرت أجدادنا لبلاد حوس موالدي ووجارى
إن كل ما عرضناه أعلاه لا يوصلنا إلى أصل الفولانيين بصورة قاطعة، كما أن هذا ليس مبتغانا الأساس في هذا المقال. فغرضنا في كل هذا، بيان وجود قدر ما ونوع ما من الصلة أو العلاقة بين الفولانيين ومجموعة الشعوب التي ورد ذكرها في ما تقدم (قدماء المصريين، هكسوس، فينيقيين، روم، ليبيين، بني إسرائي، وعرب). لعل أهم ما نخرج به مما تقدم من عرض ، نتيجتان: 1) هناك ما يربط بين الفولانيين من جهة، وبعض الشعوب البيضاء (أو الحمراء) القادمة من خارج القارة الإفريقية من جهة أخرى. 2) هناك شواهد تشير إلى وجود الفولانيين في الرقعة الممتدة من صحراء سيناء إلى بلاد المغرب قبل ظهورهم في إفريقيا جنوب الصحراء. والنتيجة الثانية ذات أهمية قصوى لما سيأتي لاحقاً من نقاش.
تجمع أغلب المراجع المهتمة بالدراسات الفولانية بأن أول موطن عُرف للفولانيين في إفريقيا هو فوتا تورو في شمال السنغال وجنوب موريتانيا، مع موطن ثانوي في فوتا جالو في غينيا. ولكن – كما ذكرنا في المقدمة – ظهرت كتابات متأخرة نسبياً تشير إلى وجودهم شمال الصحراء آلاف السنين قبل ظهورهم جنوبها. فقد كشفت الحفريات في تسيلي ناجير في الجزائر عن رسومات على الصخور لأعداد كبيرة من الأبقار، مما دعى مارغريت ترويل إلى الإشارة إلى هذه الحقبة بـ" الحقبة البقرية" (Cattle Period). وتصوِّر الرسومات في تلك الحفريات أناساً يقودون الأبقار ومجموعة من الأشخاص يلبسون الحلي، "وهؤلاء غالباً هم الذين يطلق عليهم الفولانيين" (انظر الصورة رقم (3):
ويؤكد العالم السنغالي أحمد همبتي با أن الرموز التجريدية في رسومات تسيلي هي نفس الرموز التي كان يستخدمها الفولانيون في طقوس العبور في مناطق السنغال وغامبيا في زمنه، حيث إنه نفسه قد مر بها. وتتفق هذه الرموز، حسب أحمد همبتي با، في أشكال الملابس (المزركشة والمزدانة) وأشكال قرون الأبقار، ويعبَّر عن الميدان الذي تقام فيه طقوس العبور بقرص الشمس محاطة بدائرة من رؤوس الأبقار ترمز للمراحل المختلفة للقمر. ويضيف بأن "البقرة الخنثمشكل" (Hermaphroditic cow) التي تظهر في رسومات تلك الحفريات ترد أيضاً في الأساطير التي تروى أثناء طقوس العبور. ويلاحظ أديببيقبا أن جدائل الشعر المتدلية على ظهر المرأة في رسومات تسيلي مطابقة تماماً للتي عند المرأة الفولانية اليوم. إن ما أورده أحمد همبتي با أعلاه يدعونا إلى الإشارة إلى أن طقوس العبور التي مر بها ما زالت تمارس إلى يومنا هذا عند الفولانيين الامبرورو بجنوب النيل الأزرق، وأن شكل ملابس طقوس العبور التي وجدها برين في رسومات تسيلي يتفق – من حيث الزركشة والزينة - مع شكل الملابس التي يلبسها الفولانيون الامبرورو بجنوب النيل الأزرق اليوم في مناسباتهم المختلفة (انظر الصورة رقم (4و5). وانطلاقاً من إفادة ديلانقي بأن أماكن رسومات تسيلي تقع مباشرة إلى شمال المنطقة التي يمكن أن نجد فيها الخصائص الأصيلة للفولانيين، يرجِّح أديبيقبا أن تكون تسيلي ناجير هي الموطن الأصل للفولانيين (في إفريقيا).
وهناك مجال آخر من الدراسات يربط الفولانيين أيضاً بشمال إفريقيا، وهي دراسات الثقافة المادية. لعل أهم جانب يشتهر فيه الفولانيون في هذا المجال، ذلك المتعلق بالنقش على القرع (جمع قرعة Wild Gourd). فقد ذكرت ديلانقي (Delange) أن هناك أثراً كبيراً للطوارق في فن الفولانيين فيما يتصل بهذا النقش. فكلتا المجموعتين (الفولانيون والطوارق) تستخدم الخطوط بصورة أساسية في النقوش، الطوارق على المجوهرات والفولانيون على القرع. وأشكال الخطوط عند كليهما متشابهة بصورة ملاحظة. وكذلك لاحظت أن كلاً من البربر والفولانيين يستخدمون المصنوعات الفخارية لأغراض وظيفية وأغراض جمالية (كحاويات، وأدوات منزلية، وأحواض غسيل، وأدوات زينة حائطية، وتستبعد ديلانقي أن يكون عامل التجارة وراء هذا التشابه، بل بالأحرى الاتصال المباشر والتعايش معاً، لا سيما – في قولها – أن بساقري (Passagre) وعلماء آخرين يرون أن الفولانيين من أصل بربري من شمال إفريقيا.
كذلك تؤيد دراسة أديبيقبا ملاحظة ديلانقي، حيث يؤكد أديبيقبا أن النقش الذي يستخدمه الفولانيون في تزيين قرعهم يشبه ذلك الذي تزين به قبيلة الكبيلي البربرية في الجزائر أوانيها الفخارية.
إذن يُستخلص مما تقدم أن هناك من الأدلة المادية ما يؤكد وجود الفولانيين في بلاد المغرب والصحراء الكبرى قبل ظهورهم جنوب الصحراء. وحتى ما أورده الشيخ عبدالله بن فودي من الزيجة التي تمت بين عقبة بن عامر وابنة ملك الروم كان مسرحها هذه المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن اسم ابنة ملك الروم - أي بجُّ منغُ ( ربما منغَ Manga) - يعني في اللغة الفولانية، "الكبيرة" أي الفريدة عظيمة الشأن، مما يوحي بأن الفولانيين كانوا موجودين في هذه المنطقة قبل وصول عقبة بن عامر إليها. وكذلك بقية النظريات التي تتحدث عن الأصل الليبي والمصري القديم والهكسوس والفينيقي كلها تشير إلى الوجود المبكر للفولانيين في المساحة الجغرافية الواقعة بين مصر عبر سرينايكا (ليبيا) إلى بلاد المغرب والصحراء الكبرى.

2- "البقرة" و"الشمس" و"النار" في اللغة الفولانية – مدخل آخر للنقاش


بما أن أطروحة هذا المقال تستند على معطيات تاريخية وثقافية، مادية وغير مادية، وأن اللغة مرآة للثقافة، فسوف نحاول في هذا الجزء من المقال استجلاء بعض المعطيات اللغوية التي تعضد أطروحتنا، لا سيما وأن مفاهيم الفولانيين للكائنات حولهم وكذا فلسفتهم في الحياة نجدها مجسَّدة في لغتهم، ليس فقط في ألفاظها، كما هو الحال في اللغات الأخرى، بل في أبنيتها الصرفية والنحوية. ولكن قبل أن ندخل في الموضوع ينبغي الإشارة مرة أخرى إلى الإشكال القائم حول العلاقة بين الفولانيين كمجموعة إثنية من ناحية، واللغة الفولانية التي يتحدثونها اليوم من ناحية أخرى. فقد رأينا في ما تقدم أن شعب الفولاني قادم من خارج القارة الإفريقية، وهذا أمر يكاد يحظى باتفاق العلماء. غير أن اللغة التي يتحدثونها هي لغة مجموعات إسمية (Noun Class Language)، ولها صلة رحم باللغات السنغالية واللغات البانتوية. فبهذا المعنى، إنها لغة إفريقية صرفة لم يجد علماء اللغة أمثلة لفصيلتها اللغوية خارج القارة الإفريقية. على أية حال، حتى إذا صدق الرأي القائل إنه ربما يكون الفولانيون قد تخلوا عن لغتهم الأصلية وتبنوا هذه اللغة الإفريقية لغةً لهم، فإن إفريقيتها تنحصر في ألفاظها وتراكيبها، بينما ترجع المفاهيم التي تقوم عليها إلى ثقافة الفولانيين ونظرتهم للحياة.
إن أهم ما يميز اللغة الفولانية - وكذلك بقية لغات الفصيلة التي تنتمي إليها – هو أن أسماء كل الكائنات تتوزع في نظام مجموعات، تنضوي كل مجموعة تحت حقل دلالي معين وينتظمها (أي المجموعة) نمط صرفي خاص بها من حيث الإفراد والجمع. فمثلاً كل الأسماء التي تشير إلى مجموعة الآدميين (الإنسان) نجد المفرد منها ينتهي باللاحق (suffix) o-، والجمع باللاحق e– كما في كلمة gorko "رجل" وجمعها worb’e "رجال"، وكلمة laamiid’o "ملك" وجمعها laamiid’e "ملوك". ونجد أسماء السوائل كلها تنتهي باللاحق am-، كما في كلمة ndiam "ماء" و kosam "لبن"، وهكذا في بقية المجموعات. وتحتوي اللغة الفولانية (لهجة الوسط – نيجيريا) على خمس وعشرين مجموعة من هذا النوع، كل منها يضم عدداً من الأسماء (nouns) يتراوح بين حوالي عشرين وثمانين اسماً تقريباً، باستثناء مجموعتين، هما: مجموعة (nge-class) nge التي تضم ثلاثة أسماء فقط، ومجموعة (kol-class) وقوامها اسم واحد فقط. وهاتان هما المجموعتان موضوع اهتمامنا في هذا المقال.
إن الملفت للنظر في مجموعة nge ليس فقط اقتصارها على ثلاثة أسماء، بل إن هذه الأسماء، على عكس ما هو الحال في المجموعات الأخرى كالآدميين والسوائل، يصعب من الوهلة الأولى التعرف على أي رابط دلالي بينها يبرر تصنيفها في مجموعة واحدة. والأسماء الثلاثة هي: "البقرة" nagge ، و"الشمس" naange و"النار" yiite.
إذا تذكرنا أن كل الفولانيين في الأساس كانوا رعاة أبقار قبل أن يهجر بعضهم حياة البداوة، نجد أن البقرة تمثل كل شيء في حياتهم، بل (في مفهوم المجموعات البدوية منهم) هي أسباب وجودهم raison d'etre، حيث يعتقدون أنهم خلقوا لخدمتها: يتعاملون معها بنوع من القدسية، فيقسمون بحوافرها ويتواصلون معها، إذ إن أبقار الامبرورو لا ترعى إلا إذا وقف الراعي في هيئة معينة وأعطاها الضوء الأخضر للانطلاق في الرعي.
تشير الأساطير المتواترة حول أصل البقرة – على الأقل في حزام السافنا في غرب ووسط إفريقيا – إلى أن الفولانيين هم أول من امتلك البقرة، ومنهم أخذتها وأخذت ثقافتها بقية الشعوب التي امتلكتها فيما بعد. فتقول الأسطورة السائدة عند عرب الشوا حول بحيرة تشاد:
في الزمان الغابر كان البقر يعيش في الماء، ولم يتم ترويضه بواسطة الإنسان بعد. فرأى عالم فولاني هذه الحيوانات وأعجب بها، فقام عن طريق السحر والأعشاب (العروق) بإخراجها من الماء. وكان الناس في البداية يخافون من هذه الحيوانات الضخمة ويفرون منها، ولكن سرعان ما ألفوها، وتعلموا كيف يوقدون النار حول الزرائب التي تتجمع فيها فتحس بالراحة.
وهناك أسطورة أخرى تقول أن أحد أسلاف الفولانيين سمع صوتاً يناديه يخرج من البحر. فذهب وجلس بشاطيء البحر (النهر؟) وأوقد ناراً، وعند شروق الشمس خرجت البقرة من البحر، وكان قرص الشمس بين قرنيها. فجاءت ورقدت بجوار النار وأخذت تتكاثر.
إلى جانب فكرة كون الفولانيين هم أول من امتلك البقرة في مناطق غرب ووسط إفريقيا، فإن الأسطورتين أعلاهما تحتويان على كلمات مفتاحية قد تفسر لنا كنه مجموعة nge (nge class) التي نحن بصدد الحديث حولها، وهذه الكلمات (والتي تحتها خط) هي: "البقرة" و"الشمس" و"النار". فهذه الكلمات هي المكونة لمجموعة nge، وما ورد في الأسطورتين يعطينا تفسيراً مقنعاً لتصنيفها في مجموعة واحدة رغم عدم تجانسها دلالياً. إذن فإن "البقرة" و"الشمس" و"النار" تشكل مجموعة متجانسة دلالياً (مجموعة nge)، وهي مجموعة العناصر الحيوية في الوجود عند الفولانيين، بما في ذلك المعتقد. وتجدر الإشارة إلى أنه إلى يومنا هذا يمارس الفولانيون الرعاة عادة إيقاد النار في المساء حول زرائب الأبقار لتستريح، وتسمى هذه النار تحديداً في اللغة الفولانية d’uud’al "تكاثر" اعتقاداً منهم بأنها تعين على توالد الأبقار (تبعاً لما ورد في الأسطورة الأولى) وتجلب لها النماء.
أما "قرص الشمس بين قرني البقرة"، فيذكر بآلهة قدماء المصريين (انظر الصورة رقم (6))، وما زال الفلانيون الرعاة يرمزون له في احتفالاتهم بطقوس العبور، كما رأينا في إفادة روبرت برين التي ورد ذكرها فيما تقدم. وسوف نعود إلى هذا الموضوع عند حديثنا عن صلة الفولانيين بقدماء المصريين.
أما مجموعة kol(kol-class)، فقوامها – كما أسلفنا – اسم واحد فقط، وهو nyalahol "العجل". وهذه المجموعة أيضاً ذات مغزى كبير في نظرة الفولانيين للحياة. فالعجل هو ابن البقرة ورمز لاستمراريتها، يعظمونه ويقسمون أيضاً بحوافره. لذلك لم يجدوا له كائناً آخر يدانيه في المقام فيشاركه هذه المجموعة، أي مجموعة kol. كما هو الحال بالنسبة لـ"قرص الشمس بين قرني البقرة"، فإن للعجل أيضاً مكانة خاصة من بين معبودات قدماء المصريين، كما سنرى لاحقاً.
نخلص مما تقدم إلى أن البقرة تمثل عصب الحياة وأسباب الوجود عند الفولانيين وأهم عنصر في ثقافتهم. فقد أورد تيلر Taylor 82 اسماً للأبقار في اللغة الفولانية، حسب ألوانها، وطباعها، وأعمارها، وأشكال قرونها، الكسول منها والنشط، التي تسير في مقدمة القطيع منها والتي تسير خلفه، الضعيف منها والوديع، الولود منها وغير الولود، وحسب كمية لبنها، وحسب عدد البطون التي خلفتها، وما إذا كان صغيرها قد نفق أم على قيد الحياة، إلخ. كل هذا يؤيد الاعتقاد السائد لدى بعض شعوب غرب ووسط إفريقيا بأن الفولانيين هم أول من امتلك البقرة. وقد أثبت براوكيمبر (Braukämper) أن ثقافة البقارة (Baggarization) قد تطورت على أيدي الفولانيين، وأن من يُعرف اليوم بـ "البقارة" في دارفور، عند تحولهم من "أبالة" (رعاة الإبل) لظروف مناخية، امتلكوا فصيلة البقر التي كان، وما زال، يرعاها الفولانيون، كما أخذوا ثقافتها منهم. وكذلك رأينا العنصر الرابط بين "البقرة" و"الشمس" و"النار"، والذي يبرر تصنيفها في مجموعة إسمية واحدة في اللغة الفولانية، باعتبارها العناصر الحيوية في وجود الفولانيين. وكذلك رأينا أن للعجل مكانة أخص في مفهومهم للأسباب التي سقناها أعلاه، وأن "العجل" و"قرص الشمس بين قرني البقرة" يعودان بنا إلى معتقدات ومعبودات قدماء المصريين، مما سيساعد على مناقشة موضوع الجزء التالي من هذا المقال.

هناك 13 تعليقًا:

  1. تسلمو كتير علي المعلومات الطيبة مع تحياتي الفولاني

    ردحذف
    الردود
    1. Ana min mauritania
      Eckour el foulane alla hadi maloumatt
      Al vikra anna foulanie

      حذف
  2. مشكوريييين كتير على المعلومات القيمة واتمنى لكم التوفيق والسداد
    عبدالله محمد عبدالله فولاتارى

    ردحذف
  3. مشكورين كتييييير على المعلومات القيمة وفقكم الله وسدد خطاكم

    ردحذف
  4. مشكوريييين كتير على المعلومات القيمة واتمنى لكم التوفيق والسداد
    عبدالله محمد عبدالله فولاتارى

    ردحذف
  5. القول بنسب الفلاتة لعقبة بن نافع غير صحيح _وكلها مجرد حكاوي فحسب ،انما الصحيح والموكد تاريخيا اسهام الفلاتة في نشوء وسقوط الممالك والدول الافريقية منذ القرن الاول الميلادي (غانا) و(التكرور) الخ، قبل ظهور الاسلام بمئات السنين، فكيف ينسبون لعقبة بن نافع _وانا لا اعتقد ان الفلاتة ينتسبون لعقبة او غيره او حتي الي العرب ،ومن يعتقد غير ذلك فليأت ببيناته ،وحتي ذلك الحين فانا فلاتي من اصل فلاتي

    ردحذف
  6. الحكيم مودى ززززمصطفى حسينالسبت, 02 يونيو, 2012

    شكراعلى المعلومات لكن الارجح ان يكون عقبة بن نافع قد تزوج من الفولاني الدين كانو موجودين اصلا

    ردحذف
  7. حقيقة اعجبنى هذا الموضوع الثّر وفى قراءتى المتواضعه من خلال مقالات البروف ابو منقه ودكتور الطيب زين العابدين و كتاب الخرطوم الشعب الدُعاةعلمت انه على الرغم من لاختلاف فى اصل لفولانى الا انهم يتفقون على انها قبائل عربية الاصل .وتحياتى الى كل المشاركين والمهتمين بهذه القبيله العظيمه والتى تحتاج الى ابنائها لاِظهار دررها الكامنه ليعلم الجاهلون باْمرها عظمة هذه الامه ...تحياتى للجميع

    ردحذف
  8. حقيقة اعجبنى هذا الموضوع الثّر وفى قراءتى المتواضعه من خلال مقالات البروف ابو منقه ودكتور الطيب زين العابدين و كتاب الخرطوم الشعب الدُعاةعلمت انه على الرغم من لاختلاف فى اصل لفولانى الا انهم يتفقون على انها قبائل عربية الاصل .وتحياتى الى كل المشاركين والمهتمين بهذه القبيله العظيمه والتى تحتاج الى ابنائها لاِظهار دررها الكامنه ليعلم الجاهلون باْمرها عظمة هذه الامه ...تحياتى للجميع

    ردحذف
  9. حقيقة موضوع مثير للجدل
    وبالمناسبة مشكورين علي كل المعلمومات القيمة

    ردحذف
  10. Thank уou for sharing your thoughts. I truly appreciate your efforts and I am waitіng for your furthеr ωritе
    ups thanks once again.

    My pagе - geschenk zur taufe

    ردحذف
  11. Excеllent blog heге! Alsο your site loaԁѕ up vеry fast!
    What host are you using? Ϲan I gеt your affilіate link
    to your host? ӏ wish my site lοaded up as quiсκly aѕ yours lol

    Here iѕ my blog ... bastahemorroides

    ردحذف
  12. Αftеr lοоkіng οver а few of the blog ρoѕts on your
    websitе, І trulу like your technique οf writing а
    blog. I book marked іt tο my boοkmarκ
    website list anԁ will be checkіng back іn the near futurе.
    Ρleasе check out my website as ωell anԁ let me knοw ωhаt you think.


    mу blog Ηemroidѕ-Piles.Com :
    : http://ybatv.org :
    :

    ردحذف

Ɓii Pullo : Babiker Mohamed